في صيف عام 1993 كان والداي مسافران في رحلة إلى إحدى دول جنوب شرق آسيا وكان عمري آنذاك 25 سنة حيث كنت أقطن في وحدة سكنية (بيت العائلة )في الدور الأول وكان عمي يقطن أمام شقتنا مباشرة في نفس العقار المكون من 5 طوابق في إحدى ضواحي مدينة حلوان - مصر.
في ذلك الزمن لم يظهر الهاتف الخليوي بعد كأحد أهم وسائل الاتصال وكنت حينذاك أعمل في أحد المتاجر الراقية ودائماً ما كنت أعود من عملي في غضون الساعة 11:00 مساءً أو قرب منتصف الليل ونظراً لبعد مكان العمل كنت أتوجه لأحد المقاهي برفقة زملائي الذين كانوا يحرصون دائماً على إيصالي إلى منزلي بسيارتهم ، في تلك الفترة لم يكن يشاركني في السكن سوى شقيقي الذى يعمل في إحدى المؤسسات الإعلامية والذي تتطلب طبيعة عمله السهر أو المبيت في محل عمله .
كان كل أمر يمر بشكل طبيعي إلى أن حدث ما أثار الحيرة والإستغراب ، ففي إحدى الليالي ولدى عودتي إلى المنزل شرعت في الوضوء لأداء صلاة العشاء ، فإذا جرس الباب يرن فضلاً عن طرقات خفيفة متعددة فتوجهت إلى الباب لأجد أحد أقاربي الفلاحين من محافظة الدقهلية ، وهو رجل عزيز جداً على والدي ويتمتع بروح مرحة وعفوية ، وكان دائم الزيارة لوالدي وعمي حرصاً منه على أواصر العلاقة ، رحبت به كثيراً وسلمت عليه واحتضنته وفي نفس الوقت كان يساورني سؤال خلال تلك اللحظات الوجيزة وهو : لماذا أتى هذا الرجل في هذا الوقت المتأخر لزيارة والدي فهو لم يأت مسبقاً خلال هذا التوقيت كما أنه حريص على النوم مبكراً كعادة الفلاحين ؟
سرعان ما وجدت إجابة محتملة لهذا التساؤل فقد يكون الرجل في زيارة لعمي الذي يقطن أمامي مباشرة ولسبب ما تأخر لهذا الوقت ، أو أنه كان في زيارة لأحد أقاربنا القاطنين بمنطقة (النصر للسيارات ) القريبة من سكني ، لكن سؤال أهم خطر على بالي وهو : لماذا أتى للسؤال عن والدي بالرغم من أنه يعلم جيداً أنه خارج البلاد في تلك الفترة ؟ لأنه كان قد سأل عن أبي مباشرة بمجرد أن فتحت له الباب .
وبتلقائية أدخلته وتوجهت إلى المطبخ لأعد له كوباً من الشاي "الثقيل" الذي غالباً ما يحرص على شربه حينما يزرونا ، وبينما أنا في المطبخ كنت أتواصل معه في الحديث بصوت عال ، ثم توجهت لأجفف مكان الوضوء ولكنني لاحظت أنه لم يرد علي خلال مخاطبتي له فخرجت إلى الصالة مرة أخرى وتركت الماء على النار لحين غليانه فلم أجده بالخارج وإذا بباب المنزل مقفول ! ، فحدثتني نفسي بأنه قد ذهب إلى عمي ليطرق بابه ، وبعد أن انتهيت من إعداد قدح الشاي فتحت باب المنزل وعبرت بهو المدخل الذي لا يتعدى ثلاثة أمتار ثم طرقت باب شقة عمي المقابلة فلم أجد من يفتح الباب ولاحظت أنه لم ينبعث نور الصالة من ثقب باب منزله الخارجي(العين السحرية)مما يعني أنه كان نائم ، ثم نظرت إلى البوابة الرئيسية للعمارة فوجدتها مغلقة وتذكرت بأنني قد أغلقتها بالقفل الخاص بها لدى عودتي منذ دقائق ، فتسرب القلق و القشعريرة إلى جسدى كله وتساءلت بصوت منخفض كيف له أن يدخل على الرغم من أن البوابة العمومية مقفولة ، وأين أختفى فجأة دون سابق إنذار إن لم يكن عمي متواجداً .
فصعدت مباشرة كالتائه إلى الطوابق الأخرى للعمارة حتى بلغت السطوح فلن أجده ، ولكني سمعت أحد أبواب الشقق تفتح فنزلت بسرعة يكتنفها التعجب والقشعريرة و الخوف لأجد زوجة عمي (هي خالتي أيضاً) تفتح باب شقتها وتسألني :
- "
في حاجة يا محمد ؟! ....باب شقتك مفتوح وفضلت أنادى عليك " .
فقلت لها :
- "
كان قريبنا (فتح الله ) هنا منذ عدة دقائق وسأل عن أبي ومن ثم اختفى فهل هو هو عندكم ؟ !"
فقالت :
- "
أنت مرهق من الشغل ولا إيه ... ألم يكن لديك علم بأن أخوك وعمك سافرا إلى البلد لتشييع جنازته هذا اليوم ؟! ... ألم يخبرك أخوك بذلك ؟ "
فقلت لها بتلقائية شديدة وأنا يكسوني الوجوم وذهني شارد إلى أبعد الحدود :
- "
لا والله لم يخبرني شقيقي بذلك ... "
فردت زوجة عمي :
- "
لا هما في البلد مع أنهما استأذنا من عملهما في مبنى التلفزيون ليتوجها مباشرةً للبلد ( بمركز ميت غمر ـ دقهلية ) ولم يأتيا حتى الآن وتقريباً حـ يباتوا هناك "
ثم قالت منفعلة :
- "
أنت بتقول مين اللي كان موجود .. ؟! "
فقلت شارداً ً وأنا أقسم لها :
- "
والله عمي (فتح الله) بنفسه كان هنا وطرق بابي حالاً وأنا كنت أتفقد أين اختفى ".
ثم وهرعت مباشرة لشقتي مبرزاً لها فنجان الشاى الساخن الذي قمت بإعداده له فردت قائلة:
- "
لا حول ولاقوة إلا بالله . . أصله كان بيموت فى والدك وبيحب روح دعابته وكان دائم السؤال عنه ..وصعبت عليه روحه أن لا يقابلوه قبل مماته هذا اليوم "
وأثناء كلامها المتواصل كنت أحمل كوب الشاي بيدي اليمنى ويدي اليسرى كانت تقرص فخذي الأيسر عسى أن أكون في أحد الأحلام وبعيد عن الواقع .
وعندئذ طلبت عمتي أن أترك شقتي لأنام مع ابن عمى لأنها تعجبت مما حدث وتعاطفاً منها لما شاهدته من ذهول وشرود بادياً على وجهي اعتذرت لها وجلست بمفردي في نفس المكان الذى جلس به (الزائر) وتسربت إلي أفكار عديدة امتزجت بضحكات ساخرة لما مر بي من خوف وقشعريرة ، وشربت أيضاً فنجان الشاي وتعوذت من الشيطان الرجيم وقمت لأصلي العشاء ثم جلست على سجادة الصلاة أتلوا أيات من الذكر الحكيم بجوار الشرفة المفتوحة .
لم أتمكن من النوم فى هذه الليلة على الرغم من الطمأنينة التي أحاطتني وأنا أقرأ القرآن . وإلى هذا اليوم لم أجد تفسيراً عملياً لهذه الحادثة باستثناء تفسير زوجة عمي والذى يمكن أن يكون برهاناً لما حدث.
والأكثر غموضاً بعد ذلك أنني قد رأيت هذا الرجل ( فتح الله ) في أحد أحلامي وهو يمشي بثبات وفرح فيما كنت أنظر إليه من الشرفة الخلفية لمنزلي حيث قال لي فى الحلم : "
أنا ذاهب لعمك حسن في تقسيم النصر هسلم عليه أصله وحشني "، وثاني يوم بعد هذا الحلم جاءنا خبر وفاة عمي حسن الذي كان دائماً ما يزوره هذا الرجل .
يرويها محمد (43 سنة ) - مصر